قال: (ثم أخبر سبحانه وتعالى عن عقوبة المعرضين عن التحاكم إليه في العلميات -أي: في الاعتقاديات والخبريات- أو في العمليات -في الأحكام والشرائع والحدود والتعزيرات والأقضية- فقال تعالى: ((
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ))[النساء:62]، فأخبر أن هذا الإعراض عن التحاكم إليه سبب لأن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم) و
دائماً ما تركت هذه الأمة كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وتحاكمت إلى غيرهما، إلا أصابتها المصائب، وحلت بها الدواهي والنكبات حتى ترجع إلى دينها لكن إن وقعت المصيبة فماذا يكون؟ يقولون: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)، فالنفاق هو النفاق، والضلال هو الضلال، والشبهة هي الشبهة من قديم إلى الآن، والعلة واحدة يقولون: أردنا أن نوفق بين مقتضى الوحي وبين مقتضى المنطق والعقل، أردنا أن نوفق بين النقل وبين العقل، أردنا أن نوفق بين ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما جاء عن
أفلاطون و
أرسطو وأمثالهم، فنحن حاولنا أن نأخذ شيئاً وسطاً لا هو ظاهر الأحاديث ولا هو على ظاهر كلام أولئك، نريد أن نساوي بينهما حتى لا يكون هناك تعارض، وهذه هي الشبهة التي يقولها اليوم كثير ممن مرض قلبه بمثل هذا النوع من النفاق، يقولون: لا بد من التوفيق بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، فنلتقي في نصف الطريق؛ لأن الأمور في الإسلام عظيمة، لكن ما تتناسب مع الحضارة، فمثلاً: الإسلام يرى أن المرأة لا بد أن تكون في البيت، قال تعالى: ((
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ... ))[الأحزاب:33] فالأصل مكثها في البيت، وفي الحضارة الغربية: المرأة والرجل متزاحمين، فكيف نوفق بينهما؟ يفتحون الكليات والتخصصات، ونفعل كذا، ونجعل كذا، حتى نوفق بين هذا وهذا! إن محاولة التوفيق بين الحق والباطل هو شأن المنافقين النفاق الأكبر الذي ذكره الله تبارك وتعالى، لذا فالواجب التحاكم إلى ما أنزل الله، ورد كل علم أو حضارة أو وضع إلى ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا أرادوا التوفيق في مسألة الربا؛ فإن الشريعة جاءت بتحريمه، والحضارة الغربية والاقتصاد العالمي يقومان الآن عليه، فأرادوا التوفيق بينهما فقالوا: القروض الإنتاجية شيء، والقروض الاستهلاكية شيء، وهذا يجوز وذاك لا يجوز، حتى أحياناً يخرجون الكلام ويؤولونه، مثل: تأويل آيات الربا حتى لا يبقى هناك ربا، فيقولون: الذي في البنوك الآن هو عبارة عن نسبة مقابل التضخم فأنت إذا أقرضته الآن مائة جنيه بعد سنة يكون قيمة المائة جنيه مائة وعشرة أو مائة وعشرين، فالتضخم يقابله فائدة، فنجعل عشرين في المائة أو عشرة في المائة فائدة، وهذه ليس فيها ربا، وبهذا تكون الآيات لا معنى لها أو لا دليل لها، وتبقى الآيات حروفاً مكتوبة لا قيمة ولا دلالة لها وهكذا، فهؤلاء الذين ذكرهم الله يريدون التوفيق بين الحق والباطل، وفي النهاية لا يكونون من أهل الحق؛ لأنهم أعرضوا عنه، ولا يكونون من أهل الباطل المحض المكشوف، فيكونون كما قال الله تعالى عنهم: ((
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ))[النساء:143]، وقد ضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم المثل كمثل الشاة العائرة، مرة مع هؤلاء ومرة مع هؤلاء. ثم قال: (وقال في المتولين عن حكمه: ((
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ))[المائدة:49]) فـ
كل من تولى عن حكم الله، وعن طاعة الله، وعن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبه وليس بكلها فيسلط عليهم المؤمنين، أو يسلط عليهم الكفار، أو يبتليهم ببلاء، وربما كانت العقوبة من أقسى وأشد أنواع العقوبة، وهو أن يعاقب على الذنب بذنب أعظم منه والعياذ بالله، قال تعالى: ((
فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ))[الصف:5]، وهذا مما يجعل المؤمن يخاف من ذنوبه، أن يتجرأ على ذنب فيعاقب عليه بذنب أشد منه أو بعقوبة أكبر منها، كأن يرتكب فاحشة كبيرة فيعاقب عليها بأن يبذر في قلبه النفاق والكفر والعياذ بالله كما قال تعالى: ((
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ))[المائدة:13]، فهذه عقوبتهم، وقوله: ((
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ))[المائدة:13]، وهذا مثل من يسمع بالآية أو الحديث أو الأمر أو النهي فلا يعمل به، فينقض عهد الله الذي أخذه عليه -أن يعمل بما جاء في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم- ولا يبالي به، فتكون العقوبة: اللعنة وقسوة القلب، وإذا قست قلوبهم حرفوا الكلم عن مواضعه، فيقول: إن الحديث لا يدل على الوجوب، وقد كان في أول الأمر يخاف من تركه للأمر أو فعله للنهي، وإذا به يقول الآن: إن هذا ليس فيه شيء، وليس بحرام، وليس بواجب، فأصبح يحرف الكلم عن مواضعه، وهكذا العقوبة نعوذ بالله.